تمهيـد
كانت مصر من أوائل الأقطار العربية التي ظهرت فيها النهضة الثقافية و نشطت فيها الحركة الوطنية والقومية ، وقد وضحت أهداف تلك الحركة وتبلورت بعد الاحتلال البريطاني عام 1882 ولعب الحـزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل سنة 1907 دورا فعالا في فضح حقيقة الاحتلال البريطاني لمصر في العواصم الغربية ، وبعد الحرب العالمية الأولى برز سعد زغلول على رأس حزب الوفد ( 1918 ) فحرك ثورة 1919 ضد الاستعمار والحكم الفاسد ، على أن الوفد لم يكن الحزب الوحيد في هذه الفترة ، كذلك تحولت مصر الى ملكية دستورية بعد اعتراف بريطانيا بالغاء الانتداب على مصر
ثم ختمت هذه المرحلة الحاسمة من النضال العربي في مصر بمعاهدة 1936 على عهد خليفة « سعد » في زعامة ( الوفد ) مصطفى النحاس .
1- أسبـاب الثـورة :
أولا ـ استمرار الاحتلال بعد معاهدة 1936 :
أصدرت بريطانيا عام 1936 تصريحا أعلنت فيه الغاء الحماية على مصر التي أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة . وفي السنة الموالية صـدر دستور هذه الدولة و نص على أن نظام الحكم برلمانى . ويتألف البرلمان من مجلسين أحدهما للنواب والآخر للشيوخ ، ويكون حق الانتخاب عاما غير أن هذا الدستور كان مجرد هيكل شكلى ، فهو يقيد سلطة الملك ، على
أنه عطل عدة مرات تبعا لأحوال السياسة ، ولذلك ظهر الهياج الوطني عنيفا في وقت اشتد فيه تطاحن الأحـزاب حتى كان عام 1935 حيث استلم الوفديون بالاشتراك مع الاحزاب الاخرى الحكم برئاسة مصطفى النحاس واستؤنفت المفاوضات مع بريطانيا لوضع حـد للاحتلال ، وكانت ظروف التوتر الدولي والتسارع نحو الحرب قد لعبت دورا مهما
في عقد معاهدة بين مصر و بريطانيا التي كانت تخشى أن تندلع الحرب في وقت اشتدت فيه بينها و بين الشعب المصرى العداوة في 26 ـ 8 ـ 1936 ومما جاء فيها :
ـ انهاء الاحتلال العسكري مع احتفاظ بريطانيا بـ 10 آلاف جندی في منطقة القناة للدفاع عنها.
- تساعد بريطانيا مصر على الغاء الامتيازات الأجنبية و تؤيد دخولها الى المنظمة الأممية.
ـ بقاء الوضع في السودان كما حددته اتفاقية 1899 ( الحــــــــــكم الثنائي ).
- تعتبر مصر و بريطانيا حليفتين اذا ما تعرضت مصر أو تركيـا للخطر.
- مدة المعاهدة 20 عاما.
ومن شروط هذه المعاهدة يتضح انها لم تحقق لمصر الاستقلال الكامل حيث بقي الاحتـلال رابضا في مصـر ، أضف الى ذلك أن الانكليز لم يحترموا مصر كدولة ذات سيادة فقد كانوا يتدخلون في كل شيء ففي عام 1942 استغلت بريطانيا تناحر الأحزاب في تغيير الحكم فحاصرت القصر بالدبابات لارغام الملك على اعادة الوفد للحكم لتهـدثة غضب
الوطنيين كما استغل الانكليز ظروف الحرب العالمية فسخروا كل طاقات مصر في خدمة جيوش الحلفاء ومنعوا عن الجيش المصرى الأسلحة الحديثة لاتهامه بالضعف.
ثانيا ـ استبداد القصر وفساد الحكم :
في عام 1936 توفى الملك فؤاد وكان ابنه الأمير فاروق في سن 16 سنة فأنشىء له مجلس وصاية الى جويلية 1938 حيث استلم فاروق سلطاته الدستورية وأقسم اليمين بالولاء للدستور وأدرك في الحـال ضعف الأحزاب وصراعها على السلطة بما فيها الوفد الذي حقق لمصر الاستقلال ، وأخذ فاروق يضرب هذه الاحزاب الواحد بعد الآخر وأصبحت الوزارات وكراسى الحكم طوع ارادته . وفي السنة الأولى من حكمه أقال حكومة النحاس ثم حل البرلمان في السنة الثانية وكانت الأغلبية فيـه للوفد 4/5 ، وفي هذه الأثناء برز دور حزب مصـرالفتـاة بزعامة أحمـد حسين المحامي الذي ألهب حماس الشباب في سبيل حركة وطنية متطرفة ضد الأجانب . أما الوزارة فقد أسندها فاروق الى أحد الدستوريين
المحنكين محمد باشا ، وابتدأت الحكومة الجديدة ببعض الاصلاحات في رفع مستوى حياة الشعب وتحسين حالة الفلاح بتخفيض الضريبة على الأراضي واقامة مشروعات الري وحماية الصناعة الوطنية بضرائب جمركية على السلع الأجنبية كما ضاعفت من عدد الجيش ، وفي الجانب المقابل كان الملك يتفنن في مخالفة روح الدستور وكبت الأصوات الحرة ، ومما زاد في احتقار الشعب للملك الأخبـار التي تتسرب من القصر على استهتاره ومفاسده الأخلاقية . أما الزعماء فكان همهم الوحيد الوصول الى الحكم باستعمال الضغط والرشوة وكثيرا ما لجأت الوزارات الى حل البرلمان حتى قبل نهاية المدة المقررة له وهي خمس سنوات لتفسح الطريق لاصحاب الثروة والاقطاعيين لدخـول مجلس النواب .
ثالثا ـ سوء الحالة الاقتصادية والحالة الاجتماعية :
الى جانب تعفن الأوضاع السياسية بمصر قبـل ثورة 1952 فان الوضعية الاقتصادية والاجتماعية كانت أسوأ حالا فأمام تزايد السكان المهول والنقص الكبير في الأراضي الزراعية التي كانت هی المصـدر الأساسي في حياة مصر كان هناك سوء توزيع في تلك الأراضي حيث نجد 93% من الشعب لا يملكون سوى 40% من الأرض وتقدر مساحة ما
يملكه الفرد بأقل من 2 هكتار مع أسرة يتراوح عدد افرادها بين 7 و 4 أشخاص ، و باقي الأراضي و نسبتها 60٪ لا يملكها الا 7٪ من الاقطاعيين وعلى هذه الاعتبارات فان حياة الفلاح المصرى كانت صعبة وقاسية جدا فهو يستعمل المحراث الخشبي والفأس ومسكنا رديئا يكثر فيه الذباب ولا يتعدى كوخا ذا غرفتين تأوى اليه الأسرة والجاموس والدجاج وهو لا يعرف الراحـة البيتية حيث يعمل هو وزوجته وأولاده الكثيرون تفتك بهم أمراض الأمعاء ، والسل ، والملاريا والبلهاريسا وقليل من الفلاحين من يعرف القراءة والكتابة وهم لا يستطيعـون ارسال أبنائهم الى المدارس وتزداد هذه المآسى شدة اذا علمنا أن أكثر من 3/4 العاملين في الزراعة فعلا هم ممن لا يملكون أرضا
رابعا ـ أثـر حرب فلسطين :
كانت هذه الحرب التي انتهت عام 1948 بهزيمة الجيوش العربية أمام شراذم اليهود وأمام الدسائس الدولية من أبرز أسباب قيـــــــام ثورة 1952 ، اذ أظهرت للعرب عموما ومصر خصوصا مدى ضعف حكوماتهم وتفككها ومدى التدهور والخيانة التي وصلت اليها . وظهر جليا أن أقوم سبيل للخروج بالأمة العربية من المهازل هو الثـورة على أنظمة الحكم الفاسدة وضرب الاستعمار الأجنبي الذي تخضع له تلك الحكومات وفي وسط معركة الاسلام والعروبة في فلسطين افتضحت قضية الأسلحة الفاسدة التي كانت تقدمها حكومة فاروق الى جيوشها في جبهة القتال ، وفي عام 1951 كان على رأس الحكومة في مصر مصطفى النحاس فحاول ـ زعيم الوفد ـ من جديد الغاء معاهدة 1936 واتفاقية الحكم
الثنائي في السودان المبرمة سنة 1899 كخطوة أخرى في طريق تحرير مصر ويبدو أن حكومة النحاس لم تتخذ الحيطة اللازمة في تنفيذ هذا الالغاء فحدثت اشتباكات بين الجيش المصرى والانكليزي ، وفي هذه المرة وقف الشعب الى جانب الحكومة وقدم دماءه على أرض القتال ولكن ما لبث الشعب ان وجد نفسه وحيدا حيث أشعل اعداؤه النار في القاهرة 26-1-1952 بقصد شل حركة الفدائيين فكتم الشعب غضبه منتظرا ساعة الخلاص.
ثورة 23 يوليو 1952 :
لم تكن هذه الثورة حركة انقلابية استبدلت نظام حكم بآخر ولم يكن قادتها من زعماء الأحزاب المتناحرة من أجل الاستيلاء على الحكم بل أنها كانت أمرا متوقع الحدوث بين الحين والآخر وذلك لأن الأسباب المتقدمة وما نتج عنها من تردي الأوضاع السياسية وسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية كان لا مفر من وضع حد لها . ثم كان هناك
الصحافة البارزة في كل حركة اصلاحية حيث أخذ الكتاب الأحـرار ينـادون بوجوب التغيير وهب في البرلمان بعض النواب لينتقدوا تصرفات القصر ولينددوا بالفساد وفي نفس الوقت كانت هزيمة فلسطين لا تزال حية في نفوس الضباط الأحرار فانقطعوا الى التخطيط والاعداد للثورة ونظموا لذلك حركة سرية محكمة . وفي فجـر 23-7-1952 أطاحت منظمة الضباط الاحرار بالملك فاروق وأجبرته على التنازل عن العرش لابنه الطفل أحمد فؤاد ومغادرة البلاد و بذلك تخلصت مصر من الحكم الفاسد ، وتمضى الثورة في تحقيق أهداف الشعب العربي في الأحزاب السياسية وألفت دستور 1923 وتكلفت لجنة خاصة بوضع دستور جديد يتفاعل مع أهداف الثورة . وفي 1953.6.18 تم اعلان النظام الجمهوري . أما فيما يخص السودان فقد اتفق زعماء الثورة في مصر مع الاحزاب السودانية على أن يقرر السـودانيون
مصيرهم السياسي اما باعلان الاستقلال أو بالاتحاد مع مصر على أن لا ينفى ذلك قيام حكم ذاتي بالسودان ، وبذلك تحطمت الفكرة التي روجهـا الانكليـز من أن زعمـاء الثـورة في مصـر يدبرون للاستيلاء على السودان ، وباجراء الانتخابات فاز أنصار استقلال السودان.
اصلاحات الثـورة :
بعد وضع حد للمهازل السياسية الحزبية وفساد الحكم اتجهت الثورة للاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية فوضعت حدا للملكيات الاقطاعية ووزعت الأراضي الزائدة على الفلاحين الذين استفاد منهم حوالى مليون ومائة ألف نسمة . ثم أنشأت الدولة المجلس الدائم لتنمية الانتـاج القومي الزراعي والصناعي والتجاري ووضعت أسسا لاقامة السد العالى الضخم للتوسع الزراعي ولتوليد الكهرباء.
وفي الميدان الاجتماعي أنشيء ( مجلس الخدمات العامة ) لاقامة المشروعات الصحية والتعليمية والعمرانية وتحقيق العدالة الاجتماعية والحياة الديموقراطية السليمة
وفي الميدان السياسي والعسكرى أدرك قادة الثورة منذ البداية أن تصفية الاستعمار تتوقف على البناء الداخلي للمجتمع اقتصاديا وسياسيا ووطنيا أما الوسيلة فهي تقوية الجيش وكان ذلك ما بدأ الثوار يفعلونه فاضطرت بريطانيا للتفاوض لالغاء معاهدة 1936 دون أي ارتباط عسكري ، وفي عام 1954 تم توقيع معاهدة الجلاء : غير أن هذه المعاهدة
لم تستجب هي الأخرى استجابة تامة لأهداف الثورة لأنها نصت على بقاء بعض المراكز بقاعدة السويس صالحة للاستعمال الحربي كما نصت على أن مدة هذا الاتفاق سبع سنوات من تاريخ التوقيع ، في هـذا الظرف كان على رأس الدولة المصرية جمال عبد الناصر فأعلن الغاء تلك المعاهدة نهائيا وتأميم قناة السويس بمجرد خروج آخر جندی بریطانی من أرض مصر ، وفي هذه الفترة 1954–1956 أي بين تاريخ توقيـع اتفاقية الجلاء والفاء عبد الناصر لها واجهت مصر أزمة سياسية عصيبة بسبب مواقفها التحريرية من جهة وضغط الاستعمار الانكليزي من جهة ثانية ، وكان على رأس الأزمة قضية تسليح الجيش المصرى اذ رفضت بريطانيا تزويده وذلك لخنق حركة التحرر العربي في المنطقة ـ وخوفا على اسرائيل من تفوق مصر العسكري ـ فما كان على مصر الا ان تزودت من الكتلة الشرقية فهلعت بريطانيا وفرنسا من صفقة الأسلحة الروسية ، ثم اغتـاظتا لتأميم شركة القنـاة وأخيرا انتهت هذه الأزمة بالعـدوان
الثلاثي على مصر .
العـدوان الثلاثي ونتائجه (29 اکتوبر 1956) :
يضاف الى موقف بريطانيا وفرنسا العدائي ، موقف الولايات المتحدة التي سحبت عرضها في تمويل السد العالى ، وأوعزت الى البنك الدولي للاعمار بسحب القرض الذي كان مقررا منحه لمصر ، ثم بدأت الحملات الاستعمارية ضد قرار التأميم وضد عبد الناصر الذي نعتـوه هتلر العرب و تنادي الغرب بضرورة ايقاف هذا ـ الرجل الخطير
عند حده ، و بعد شهر من التأميم عقدت الدول الغربية المنتفعة بالقناة مؤتمرا بلندن عام 1956 بزعامة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة : ثم تلا ذلك اجتماعات ومؤتمرات أخرى وكانت الفكرة السائدة محاولة وضع القناة من جديد في يد هيئة أجنبية ولما رفضت مصر كل تلك المؤامرات قامت اسرائیل و بريطانيا وفرنسا بالهجوم على مصر في نهاية شـهر
اکتوبر 1956 وقد بررت فرنسا موقفها بدعوة خنق الثورة الجزائرية في التي تحولت الى قاعدة للتحرر العربي.
وفي المعارك الأولى التي ابتدأتها اسرائیل استطاعت مصرأن تسحق فلول الصهاينة وسيطر الطيران المصرى على أرض المعركة وفي اليوم الموالى بدأ الغزو البريطاني والفرنسي ، ثم استجاب الغزاة لقرار هيئة الأمم المتحدة بوجوب وقف القتال ، وبعد ثمانية أيام من بدء الهجوم أنذر الاتحاد السوفييتي المعتدين بوجوب الانسحاب في الوقت الذي ما زالت مصر صامدة مستبسلة ، فتراجع المعتدون وفشلت خطة العدوان وخرجت مصر ومعها العرب من معركة القنـاة وكلهم ايمان بضرورة تحقيق الوحدة التي هي السبيل الوحيد لفرض أنفس استقلالهم ، على أن الخطر الأكبر ظل يتمثل في اسرائيل قاعدة الوجود هم وحماية الاستعماري وليس هناك من وسيلة لدرء هذا الخطر وتوقيه الا بالوحدة الشاملة .
تجربة الوحدة بين مصر وسوريا 1958 :
في الخامس من جانفي 1958 وافق كل من مجلس الأمة المصرى ومجلس النواب السوري على اقامة الوحدة بين البلدين ثم عرض المشروع على الناخبين في كلا البلدين (كان رئيس الجمهورية السورية آنذاك السيد شكري القوتلى) فوافق العرب في سوريا ومصر بما يشبه الاجماع على انتخاب الرئيس جمال عبد الناصر كأول رئيس لدولة الوحدة الـتى أصبحت تحمل اسم : الجمهورية العربية المتحدة وعاصمتها القاهرة، ثم أعلن عبد الناصر ان الوحدة ستكون مفتوحة أمام أي بلد عربي ، غير أن هذه الوحدة لم تدم أكثر من ثلاث سنوات حيث تزعم جماعة من السوريين حركة الانفصال في خريف 1961 و كان ذلك الانفصال مطمعا من مطامع الاستعمار والصهيونية ولكن مصر لم تفقد الأمل في رفعها لراية التحرر العربي والقومية العربية والوحدة وحتمية الصراع ضد الصهيونية واسرائيل ، ومن أجل هذه المباديء تعرضت مصر وسوريا والاردن الى الهجوم الاسرائيلي يوم 5 جوان 1967.