إن المجتمع العادل الخالص هو حيث لا يكون للفقر والبؤس أي أثر كآثار الشيخوخة والمرض وحوادث الدهر التي تستعصي على التنبؤ.
إن الصداقة تصير بحكم ذلك واجبات ولم تعد حرة من اختيار صاحبها ، إذن لا يمكن للعدل أن ينظم كل شيء ولا أن يتنبأ بكل شيء ، ولهذا فالرحمة لا بد وأن تتدخل من حين لآخر حتى تملأ فجوات تجاوزت العدل .
إن العدل يتباطأ في حضوره كما يقال ، أما الفقر فانه لا ينتظر . ولهذا يمكن اعتبار الرحمة أكسيجين البشرية ، ولكن الرحمة بدون صبر ضرر . إذا كان العدل من إملاء العقل ، فإن الرحمة التي تنفر من الخضوع للروح العادلة .
إنها تتحول إلى حب موهن للبشرية وتوبيخ لكرامة من تنزل به ، فلا بد أن ننطلق من مبدأ وهو أن نضع كل إنسان في شروط تكسبه الثقة بنفسه ونلح على إمكانية الاعتماد على النفس وألا يدين بأي شيء للغير . وكثيراً ما نتردد حينما ينادي لنا الإحسان أمام حالة محتاج ؛ فنتساءل ، أمساعدتنا له عدل أم مس بسمعته ؟ إن الإنسان في حاجة إلى أن يحترم في حياته . لكن الإنسان قد نحترمه تارة ونسيء اليه تارة أخرى .
وهنا يجب أن تأخذ روح الإحسان والصداقة لغة العدل . ولا يمكنها ذلك إلا إذا تجسدت في الأعمال وتحددت تبعاً لظروف محسوسة للوجود الإنساني .
وعندما تكون الرحمة منارة معقولة . فانها بالضرورة تتحول إلى أفعال العدل . إذ أننا لا نكون عادلين بالمعنى السامي للكلمة إلا إذا كنا مصحوبين بمحبة الغير . والرجل العادل أو الرجل الصديق المحسن إنما هو ذلك الإنسان الذي لا يتنازل فقط عما هو فائض عن حاجاته وإنما هو الذي يتنازل كذلك لخير الآخرين عن أقل ضرورياته أو أكثرها .