ذكريات معلم- الجزء الثاني -
بعد يوم شاق في السوق الأسبوعي, و بعد أن اشتريت الحد الأدنى مما يلزمني بمعية عون في المدرسة المركزية "سي حمو" الذي كان في غاية اللطف, يحدثني عن الدوار حيث سأستقر, و أنا من هول الصدمة كنت كمن فقد القدرة على الكلام, تتزاحم الكلمات في فاهي, لكنها تأبى الانعتاق صوتا, نجح فضولي في تمتمة بعض الأسئلة فارتوى بإجابات تلقيتها مفرقعات تنفجر داخل صدري فترديني حزينا .. فضلت بعد ذلك أن أكبح جماحه و أحتفظ لنفسي و لو بوهم من الأمل, من يدري ؟ قد تكون فرعيتي جنة مخفية, و أنا المستكشف الذي سينهل من عجائبها ككولومبوس مستكشف أمريكا ..
لم أحصل على مقعد VIP في "الطرنزيت" بجانب السائق, ظفرت به بعض النسوة, تكدست في الخلف مع الناس و الماعز و البضائع و أشياء أخرى, أحسني في عالم آخر أسير نحو المجهول كعروس يوم زفتها لا تعلم عن زوجها إلا اسمه و بعضا من تضاريس وجهه استرقت النظر إليها على غفلة منه.
انطلقنا في الثالثة مساء, انحدرنا نحو الطريق الوعرة, الثرثرة غزيرة جدا, يتحدث القرويون من حولي و أنا كالأصم بينهم أراقب حركات شفاههم و تعابير وجوههم المختلفة, لكن لا أفهم أبدا ما يقال, يحدث بين الفينة و الأخرى أن أعرف أني أنا المعني بحديثهم فألتقط عبارة "المعلم اوجديد" و ما عدا ذلك فهو موسيقى تنساب إلى مسامعي كلوحة فنان تشكيلي لا "أقشع" من خربشاتها شيئا.
كانت الناقلة كثيرة التوقف و كلما توقفت تتوقف معها حواسي, أهنا سأعمل ؟ لابأس بذلك ! أرقب "عمي زايد" و أدرك أننا لسنا المعنيين بالنزول, أمني النفس و أقول: لا ضير بضع أمتار و يأتي دورنا, فتتوقف, و نواصل المسير, تتوقف و نواصل المسير.. بدأت أقلق و الأمل الذي كان يرافقني من أول الطريق, غادرني في منتصفها بدون رجعة ..
كانت الطريق وعرة جدا, تحبو " الطرانزيت" على أحجارها و تضاريسها الافعوانية ببطء شديد و قلبي يرتجف خوفا من السقوط في الحافة كقلب أم تراقب خطوات ابنها الأولى و تخشى عليه السقوط فالأذى, يتمايل فيقفز قلبها من موضعه, وتصدر منها حركات لا تديرها, يتمايل و تهلع, يتكرر المشهد و يتكرر معه الهلع..
أخيرا و بعد أن استسلم جسدي للتعب تماما كما استسلمت روحي للحزن وصلنا قمة الجبل قبيل الغروب و تأهب الجميع للهبوط, بدا واضحا أننا وصلنا نهاية الطريق و لم نصل الدوار بعد, وجدنا في استقبالنا حفيد "عمي زايد" و اخرين ينتظرون بالبغال ليحملوا الأثقال عليها, شددنا الرحال و أطلقنا العنان لأقدامنا ..
كنا في أعلى الجبل,تذيلت القافلة و تعقبت حفيد عمي زايد في سواد الليل, متجهين نحو السفح في طريق لولبية, عجبت لأمره فقد كان يسير برشاقة عجيبة في جنح الظلام, أحاول مسايرته لكن الأحجار تعيقني, أعاندها فتنتقم من أصابع قدمي, كانت مجاراته مستحيلة, كان بين الحين و الأخر يلتفت إلي مستحييا و يبطئ .. وصلت بيت "عمي زايد" و التعب قد أرداني ضعيفا, أضعف من ملاكم خرج لتوه مهزوما من الحلبة.
في بيت عمي زايد, كان أفراد الأسرة مجتمعين, زوجته و زوجة ابنه و الأحفاد: ياسين, سعيد, محمد, إسماعيل و يوسف, ألقيت التحية عليهم بعبارات محتشمة و ألقيت جثتي المنهكة على الأرض و نظرات الأطفال تلتهمني و أصوات ضحكاتهم المكتومة تكسر حظر الكلام الذي فرضه قدوم المعلم الجديد ..
على العشاء, قدموا لي "الشريحة" ثم الشاي و أخيرا الكسكس, لم يكن كما ألفته بخضراواته المعتادة, كان مكسوا بطبقة كثيفة من نبات يطلقون عليه اسم "الكرنب" و نسميه نحن "الورقية" كأنها طاقية خضراء فوق رأس رجل أصلع .. كنت جائعا لكن شهيتي للطعام أوصدت أبوابها, أقحمت بضع ملاعق في فاهي و تراجعت عن طاولة الطعام متمتما "الله يخلف"...
عادة ما يجافيني النوم ليلا, لكنه في هاته الليلة بالذات فتح أحضانه و ضمني إليه مستعجلا, و قد كانت نفسي أيضا مستعجلة لاشراقة الصباح لأستكشف الدوار و المدرسة و السكن و الأطفال ..
في الصباح الباكر جدا, أيقظني صوت "عمي زايد": " المعلم, المعلم .. انكر "
عادة ما يجافيني النوم ليلا, لكنه في هاته الليلة بالذات فتح أحضانه و ضمني إليه مستعجلا, و قد كانت نفسي أيضا مستعجلة لاشراقة الصباح لأستكشف الدوار و المدرسة و السكن و الأطفال ..
في الصباح الباكر جدا, أيقظني صوت "عمي زايد": " المعلم, المعلم .. انكر "
يتبع
لقراءة الجزء الثالث اضغط على الرابط : ذكريات معلم - الجزء الثالث -