ذكريات معلم- الجزء الحادي عشر -
بعد أن بني جسر التعارف بيني و بين المعلمين الذين يعملان في الدوار الأقرب مني, كان من المستحيل أن أقضي عطلة نهاية الأسبوع في "دواري", أفرج عن التلاميذ من القسم و أفرج عن نفسي من الدوار مباشرة, ما كنت لأعير بطني اهتماما و روحي تتوق للانعتاق, أُخرِص جوعها بما تبقى من عشاء البارحة, أو حتى طرفة خبز "متغتغة" بالزيت "البلدية" أستعيد بها ذكريات الطفولة, حيث كانت أمي (رحمها الله ) تستسلم لطلباتي المتكررة بالطعام بين الفطور و الغذاء بعد أن أعياها رنين نفس العبارة " مَّــــا -مفخمة- عطيني خبيييييييييز" و تستيئس من أني قد أصبر حتى وقت الغذاء, فتقطع قطعة خبز من خبزة دائرية بحجم " الجفنة " تقطع " فم خبز " منها و تغطسه في صحن الزيت "البلدية " و تدهن به قطعة الخبز, تعطيه لي على عجل لتسكتني, لكني أأبى السكوت حتى تعيد " تغتغة" وجبتي الخبزية بمزيد من الزيت حتى يتراخى خبزي المسكين و يصبح عاجزا على الانتصاب و الاستقامة, تضع أمي "فم الخبز"وسط قطعة الخبز و تتم الصفقة بنجاح, يتوقف اضرابي من أجل الطعام وتعود أمي لتكمل نسج "زربية" لنا, أتسلم " طاكوسي" التقليدي و أرحل.
لم يكن الأمر لينتهي لو أن أمي تسرعت و سلمتني الدفعة ناقصة بأن تحرمني من "فم الخبز" المستعمل لطلاء القطعة كاملة, كان ذلك هو الجزء الأهم من الوجبة و اللب الذي يفتتح الطريق الوطينة الرابطة بين فمي و بطني, فتتوالى بعده القضمات و أفترس قطعة الخبز بنهم شديد و أمحيها من الوجود تاركة على يديي أثر الجريمة و على جوانب فمي خريطة غريبة المعالم.
في بعض الأحيان, اذا رفضت " طاكوس الزيت" كانت أمي " تتغتغ" خبزي هذه المرة بمرق لم ينضج بعد, ذلك أن الغذاء لا تكتمل دورة نموه حتى الظهيرة, تفتح أمي " القدرة " خصيصا لي, تملأ " المغرفة " و تفرغ محتواها على طرفة الخبز خاصتي, و أنا أتابع للعملية باهتمام بالغ و أحرص على أن تشبع خبزي مرقا حتى يتراخى أمام أنظاري, اذْ كلما تراخى كلما ازداد لذة, كان المحتوى خليطا كيميائيا غير متجانس يتكون من ماء ساخن و حبيبات صغيرة حمراء من "الشونية", خليط من مكونين بسيطين فقط لكن لذة غاية في التعقيد ..
في مرات أُخر, أشتهي وجبة غريبة, فأطلب من أمي صحنا صغيرا من الزيت و أضيف عليه القليل من الملح و " التحميرة " كانت خلطة يسيل لها لعابي و تفرح بها عصافير بطني.. كان كل شيء لذيذا و لم يكن الجوع حينها أمهر الطباخين وحده, بل كانت أمي أيضا كذلك.
أحشو حقيبة الظهر بما قد أحتاجه, و أمضي على جنبات الوادي, ألتوي مع التواءاته و أناور الأحجار الملساء على طريقي خشية السقوط, كنت أقطع الكيلومترات الستة في صمت رهيب, وحدها نفسي توسوس من الداخل, و تصرخ بلا أصوات,كم وددت حينها أن أطلق العنان لصرختي و أفرج عنها حتى تسمَع دويها الجبال المحيطة بي و تجيبني و لو بصدى صوتي, لكنني كنت أخشى أن يصادفني شخص ما و يظن أن المعلم طار له " الفريخ", و قد كنت فعلا أفاجأ في بحر الصمت الذي يخيم على الطريق بمخلوق يظهر من حيث لا أدري بين الشجيرات, يظهر كالغول ليوقظني من أحلام اليقظة التي كنت أغرق فيها, فأصاب بصعقة خوف سريعة كصعقة كهرباء خفيفة يذهب أزيزها بعد أن أتأكد أن ما لمحت عيناي ليس غولا أو شبحا بل كائنا بشريا يرعى الأغنام, لا أعلم هل أصابه ظهوري أيضا بنفس الإحساس الذي اعتراني فور رؤيته أم أن قسوة المكان الذي نشأ فيه أكسبته قوة و شدة فوق العادة.
كانت الساعتان اللتان أقضيهما في الطريق إلى "اغازون" تضاربا بين الواقع و الوهم حيث أتنقل بين واقع يسوده الصمت و الرتابة و عالم من الوهم تكتظ فيه الأفكار مولدة ضجيجا لا يطاق كأني عالق وسط ازدحام مروري في مدينة كبيرة.
عندما أصل إلى "اغازون" أكون حينها قد عدت إلى أحضان المجتمع, أخيرا أجد من يحاورني و أتجاذب معه أطراف الكلام, في الغرفة الصغيرة حيث وضع كل من عبد اللطيف و سفيان فراشهما على طرفيها, أوضب مكانا لي بينهما في الوسط و أستلقي حيث تتسمر عيناي على الشاشة الصغيرة, و ألتهم جهاز التلفاز التهاما, من شدة اشتياقي للفرجة, لم يكن يضايقني أن الصورة بلا ألوان, لم يكن مسموحا الإسراف في المشاهدة, فإبقاء الصندوق الصغير مشتغلا لوقت طويل يعني أننا سنبيت الليلة في الظلام, لذا فتبذير الطاقة نهارا ستدفع ثمنه ليلا..
ننطلق ثلاثتنا خارج البيت الصغير, نناقش أمور عدة, نغوص في مشاكل القسم وظروف التعليم و أهداف الدروس, يجرنا سفيان إلى أجواء جامعة الحقوق بمكناس و كيف أن أصدقاءه في الجامعة التحقوا بالقضاء و المحاماة, يتمسك بحلمه أيضا في أن يصير قاضيا و يدعو الله أن يحصل على ترخيص بحرَ هاته السنة لاجتياز مباراة القضاة, في جو مشحون بالأمل يطلق عبد اللطيف العنان لطرائفه السوسية, و نحن في طريقنا إلى هضبة " الريزو" ترتسم الابتسامة على وجوهنا جميعا.
هناك على تلك الهضبة, يبحث كل منا على مكان و وضع مناسبين لالتقاط الإشارة, إنها هضبة التواصل الاجتماعي, كنت أقضي الأسبوع كله في انقطاع تام عن العالم الخارجي, لذا يكون الشوق ضخما لتلقي الرسائل النصية التي قد تأتيني من أصدقائي و أقاربي, أجدد الوصال بهم ,و كما تشحن بطارية البيت بطاقة شمسية لتنيرنا ليلا, كنت أشحن أنا على هضبة "الريزو" بطاقة روحية من الأمل.
بعد الهضبة, تقودنا خطواتنا عند الدكان الصغير لـ "سي امحمد" الذي كان يملك الدكان الوحيد في الدوار, هناك يحلو لسكان الدوار التجمع و الانتشاء بسجائر "كازا" نلقي التحية على عجل, يشتري زميلاي ما يحتاجانه من الضروريات, فالكماليات ليست متاحة, أشتري أنا بعضا من البسكويت الوحيد في الدكان عند سي امحمد كان اسمه " ماتينا" لأجعل نفسي تتذوق الحضارة من قطعة بسكويت صلبة.
في المساء نقضي ليلتنا نتسامر, ينضم إلينا "سي امحمد " بحكاياته عن الدوار, يشنف مسامعنا بحكايات عن معلمين مروا من هناك, و كيف أن المعلم فلان تزوج من الدوار و المعلم "علان" قضى سنوات طويلة في الدوار حتى صار واحدا منهم يشاركهم أفراحهم و أتراحهم, و روايات أخرى.. لا تنتهي ليلتنا إلا بعد أن تخفت إضاءة المصباح لتنذرنا بنفاذ الطاقة من بطارية المنزل. تُطفأ الأنوار و لا تزال أحاديثنا العابرة من تحت الأغطية تتواصل.
بعد نهاية أسبوع حافلة, أخرجت فيها نفسي من براثن الوحدة, تعود هذه الأخيرة لتفترسني من أول خطوة أخطوها في طريق عودتي.. و يا له من افتراس !!!!!
يتبع
شرح المطلحات:
الجفنة: اناء معدني كبير يستعمل للتصبين.
التغتغة: التبليل الكثير.
الشونية أو التحميرة: مسحوق الفلفل (الحار)
لقراءة الجزء الموالي اضغط على الرابط: ذكريات معلم - الجزء الثاني عشر -
صل على الحبيب